كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ما في الآيات من الأحكام:
1- قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} فيه دليل على جواز كلّ من المشي والركوب في الحج.
2- استدل بعض المالكية على أنّ المشي في الحج أفضل من الركوب، بتقديمه عليه في الآية. وإلى هذا ذهب ابن عباس، فقد أخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وجماعة عنه أنه قال: ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر: أسمع اللّه تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ} فبدأ بالرجال قبل الركبان.
ولَكِنك ترى أنّ مجرد التقديم لا يدل على الأفضلية، لجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب، فإذا كان المشي أفضل، فإنما هو لأدلة أخرى. من ذلك ما أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم» قيل: يا رسول اللّه وما حسنات الحرم. قال: «الحسنة مئة ألف حسنة».
3- وفي قوله جل ذكره: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ} دلالة على جواز التجارة في الحج، روي عن مجاهد أنه قال: المنافع التجارة، وما يرضي اللّه من أمر الدنيا والآخرة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس، وقد نص الفقهاء على أنّ التجارة جائزة للحاج من غير كراهة، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر.
4- استدلّ المالكية بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ} على أنّ ذبح الهدي لا يجوز ليلا، لأنّ اللّه جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي، وأنت تعلم أنّ اليوم كما يطلق على النهار يطلق على مجموع النهار والليل، وغير المالكية يرى كراهة الذبح ليلا، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.
وقد اختلف العلماء في المراد بالأيام المعلومات، فذهب الإمام مالك وأبو يوسف ومحمد إلى أنها أيام النحر، وهي العاشر من ذي الحجة، واليومان بعده، وهو مروي عن علي وابن عمر.
وقال الإمامان أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وهي معلومات لأنّ شأن المسلمين أن يحرصوا على معرفتها، ويتحرّوا هلال ذي الحجة لما يقع في ذلك من المناسك العظيمة، ولعلهم يقولون: إنّ المراد بالذكر ما يشمل التسمية على الذبائح وغيرها من الحمد والشكر والتكبير، وعلى هذا ينبغي أن تكون على في قوله جلّ شأنه {عَلى ما رَزَقَهُمْ} للتعليل كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هداكم} [البقرة: 185].
ثم اختلف في أيام النحر، فالحنفية والإمام مالك قالوا:
إنها ثلاثة أيام: العاشر وما بعده، وهو مروي عن جمع من الصحابة، منهم: عمر وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وكثير من التابعين.
وقال الشافعي: إنها أربعة العاشر وما بعده. وقيل: إلى هلال المحرم، ولعل المذهب الأول أرجح، لأنّ بقية الأقوال لم ينقل ما يؤيّدها عمن يسامي أولئك الصحابة والتابعين.
وقد احتج لمذهب الشافعي بما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث: «و كلّ أيام التشريق ذبح» ولا شك أنّ أيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، ولَكِن هذا الحديث ضعيف قال فيه الإمام أحمد: لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم، وأكثر روايته عن سهو.
وقال البيهقي إنه من رواية سليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، عن جبير، ولم يدركه، ورواه من طرق ضعيفة متصلا.
5- ظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْها} وجوب الأكل من الهدايا، لَكِن هذا الظاهر غير مراد، فإنّ السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا، إذ غاية ما أفاده هذا الأمر أنه رفع ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا، فأباح الأكل منها، أو ندب إليه، لقصد مواساة الفقراء، ومواساتهم في الأكل. فالأمر إما للإباحة أو للندب.
ثم إنّ جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي، فإنّ دم الجزاء لا يجوز الأكل منه اتفاقا، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا أيضا. أما دم القران والتمتع فقال الشافعية: إنه دم جبر، فلا يجوز الأكل منه، والحنفية يقولون: إنه دم شكر، فأباحوا الأكل منه، والظاهر يشهد لهم، فإنّ الآية فيها ترتيب قضاء التفث على الذبح والطواف، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها، فثبت أنّ المراد في الآية دم المتعة والقران. هذا وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع، وقد كان قارنا على ما هو الراجح.
ونصّ الفقهاء على أنه يلحق بالأكل الانتفاع بجلودها وأصوافها، كما أنّه يجوز إطعام الأغنياء منها، فإنّ الآية أباحت لصاحب الذبيحة أن يأكل منها، ولو كان غنيا، ومتى جاز له أن يأكل وهو غني جاز أن يؤكل غنيا.
6- ظاهر قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِيرَ} وجوب إطعام الفقراء من الهدايا، وبهذا الظاهر أخذ الشافعيّ، فأوجبوا إطعام الفقراء منها. وقال أبو حنيفة: إنه مندوب، لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام.
7- في الاقتصار على الأكل والإطعام دلالة على أنّه لا يجوز بيع شيء من الهدايا، ويشهد لذلك ما روى البخاري ومسلم عن علي رضي اللّه عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه فقال اقسم جلودها وجلالها، ولا تعط الجازر منها شيئا.
فإذا لم يجز إعطاء الجازر أجرته منها فأولى إلا يجوز بيع شيء منها.
8- في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} دلالة على وجوب التحلل الأصغر، وذلك بالحلق أو التقصير.
9- {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر، وأداء ما التزمه الإنسان من أعمال البر، سواء أكان من جنسه واجب أم لا.
10- {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فيه دلالة على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة، كما هو مروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وبهذا قال فقهاء الأمصار.
وقيل: الطواف في الآية هو طواف الصدر. وهو بعيد، لأنّ الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة الذي اتّفق على أنّه ركن، فمن البعيد جدا أن تتعرض الآية لطواف الوداع الذي اختلف في عدّه من المناسك، وتترك ما هو أهم منه وأعظم.
هذا والحكم بأنّ وقت هذا الطواف أيام النحر كلها أو اليوم الأول فقط لا يؤخذ من هذه الآية، كما أنه لا يؤخذ منها اشتراط الطهارة وستر العورة فيه، لأنّ اسم الطواف يقع على الدوران حول الكعبة، فعلى أي حالة حصل هذا الدوران فقد حصل مسمى الطواف، ومن اشترط شيئا وراء ذلك فإنما طريقه السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم أجمعين.
قال اللّه تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)} اسم الإشارة في مثل هذا الموطن يؤتى به للفصل بين كلامين، كما في قول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالشجاعة والكرم:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ** وسط الندى إذا ما ناطق نطقا

وكما في قوله تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَابٍ} [ص: 55] ويقدر له ما يتم به الكلام، أي الأمر ذلك، أو امتثلوا ذلك.
{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ} الحرمات جمع حرمة، قيل: هي بمعنى ما حرّمه اللّه من كلّ منهي عنه، أو من المنهيات في باب الحج فقط، كما روي عن ابن عباس أنّها فسوق، وجدال، وجماع، وصيد. وتعظيمها يكون باجتنابها.
وقيل: الحرمات الأشياء التي جعل اللّه لها احتراما في الحج وغيره، وهي جميع التكاليف وقيل: وهي مناسك الحج خاصّة.
وقيل: إنها حرمات خمس: المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل، وتعظيم هذه الأشياء ظاهر.
{فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الضمير الأول راجع إلى التعظيم المأخوذ من {يُعَظِّمْ} أي أن تعظيم هذه الأشياء ينال به الإنسان مثوبة قد ضمنها اللّه سبحانه وتعالى له، وعلى هذا لا يكون {خَيْرٌ} أفعل تفضيل. أو نقول: إنه للتفضيل والمفاضلة على سبيل التنزل، وإرخاء العنان، أي على فرض أن ترك التعظيم فيه شيء من الخير، فالتعظيم أفضل منه.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} المراد حلّ ذبحها وأكلها، ثم إنه ليس المقصود بما يتلى ما ينزل في المستقبل ما يعطيه ظاهر الفعل المضارع، بل المراد ما سبق نزوله، مما يدل على حرمة الميتة، وما أهل به لغير اللّه أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.
وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه، والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى ما يكون محرما من خصوص الأنعام. وإن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير كان منقطعا. والظاهر الأول، والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أنّ تعظيم حرمات اللّه في الحج قد يقضي باجتناب الأنعام، كما قضى باجتناب الصيد.
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} الرجس: القذر، وقوله: {مِنَ الْأَوْثانِ} بيان له. والأوثان: الأصنام، وسمّاها اللّه رجسا تقبيحا لها، وتنفيرا منها. والمراد باجتنابها اجتناب عبادتها وتعظيمها. ولتأكيد ذلك أوقع الاجتناب على ذاتها، وهذه الجملة مرتبطة بما قبل الاعتراض، مترتبة على حكمه، أي إذا كان تعظيم حرمات اللّه فيه الخير وفيه رضا اللّه تعالى وكان من تعظيم هذه الحرمات اجتناب ما نهى اللّه عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الزور الكذب والباطل، وسمي زورا لميله عن وجه الحق، من الزور بفتح الواو وهو الميل والانحراف، وإضافة القول إليه بيانية.
قيل: المراد بقوله: {الزُّورِ} خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم، وقولهم فيها: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل.
وقيل المراد به قولهم في البحائر والسوائب إنّها حرام، وأن تحريمها من اللّه.
والأحسن التعميم في قول الزور حتى يشمل الشهادة الباطلة، فقد أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه» ثلاثا، وتلا هذه الآية.
{حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} الحنيف المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق، مأخوذ من الحنف بالتحريك وهو الميل، وقد اشتهر عند العرب إطلاق الحنيف على كل متمسك بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والمعنى: اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم ثابتين على الدين الحق، مخلصين للّه في العبادة، من غير أن تجعلوا لغيره معه شركة فيها. فهما حالان مؤكّدتان لما قبلهما من الاجتناب.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}.
{خَرَّ} معناه سقط من علو. {فَتَخْطَفُهُ} تختلسه بسرعة وقوة. وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لوجوب اجتناب الشرك.
والمعنى: أن من جعل للّه شريكا فقد حق عليه الخسار والبوار، وهو في شركه شبيه به إذا سقط من جو السماء، فاجتمعت عليه الطيور الجارحة، فمزقته، وذهب كل منها بقطعة منه، فتمّ بذلك هلاكه.
وظاهر على هذا أن التشبيه من باب تشبيه التمثيل، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا.
{أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ} هوى يهوي سقط من علو. وهوى به أسقطه. والسحيق: البعيد، ماضيه سحق كبعد.
هذا تشبيه ثان لمن أشرك باللّه، والعطف فيه إما على قوله: {خَرَّ مِنَ السماء} أو على {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} والمعنى أنّ حال المشرك في شركه، وما يؤدي إليه من سوء العاقبة، شبيهة بحاله إذا أخذته ريح عاصفة، فقذفت به في مهوى عميق، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة، أو أنّ حاله في ذلك شبيهة بحاله إذا خرّ من السماء، فعصفت به الريح، وهوت به في مكان سحيق.
والتشبيه على هذين الوجهين تشبيه تمثيل، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا أيضا، فيشبه الشيطان الذي يضله ويغويه بالريح التي تهوي به وترديه، ويشبه الشرك بالوادي العميق الذي لا ينجو من قذف فيه. ونتيجة هذه التشبيهات واحدة، والغرض من ذلك كله تقبيح حال الشرك، والتنفير منه.
ولا يخفى عليك ما يؤخذ من هذه الآية من الأحكام فيما يتعلق بحرمات اللّه، والانتفاع بالأنعام، والإشراك باللّه، وشهادة الزور.
وليس في قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ما يدل على تعزير شاهد الزور، فإنّ غاية ما أفاده تحريم شهادة الزور، وما روي عن عمر رضي اللّه عنه من أنه كان يعزّر شاهد الزور، ويأمر فينادى عليه بالأسواق. وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد، فإنما ذلك شيء يرجع إلى السياسات الشرعية، فللحاكم أن يفعل من ذلك ما يراه أحفظ لحقوق العامة، وأردع لأهل الفساد.
قال اللّه تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}.
الشعائر: العلامات التي تعرف بها الأشياء، فهي تشعر بها وتدل عليها، وقد اختلف في المراد بها هنا: فقيل: إنها الدين كله أوامره ونواهيه، فهي شعائر اللّه، لأنّ امتثالها والوقوف عند حدودها يدل على الطاعة للّه تعالى، والإخلاص له. وقد اضطر من يقول بهذا أن يفسّر البيت العتيق في قوله جلّ شأنه:
{ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بالجنة، وهو كما ترى بعيد.
وقال ابن عمر رضي اللّه عنهما والإمام مالك والحسن: إنها عرفة، ومنى والصفا والمروة، والبيت الحرام، وغيرها من مواضع الحج، وهو لا يخلو من شيء، فإن اللّه تعالى قال في شأنها: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} والمحلّ في الحج قد اشتهر في المكان الذي تذبح فيه الهدايا كما سيأتي. فالظاهر أنّ المراد بالشعائر الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وسميت بذلك لأنّها تدل على الحج، أو على طاعة سائقيها للّه تعالى، وتعظيمها يكون بأن تختار سمينة حسنة غالية الأثمان.
والتقوى هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب المناهي. ولا يخفى عليك أنّ الضمير في كلمة {فَإِنَّها} عائد على الشعائر، وهي لا تصلح أن تكون بعضا من التقوى إذا كانت من للتبعيض، ولا أن تكون ناشيءة من التقوى إذا كانت من للابتداء، فلابد من تقدير يصلح لذلك. كما أنك تعلم أنه لابد من رابط في قوله: {فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} يعود على المبتدأ، وهو من فيكون مآل الكلام هكذا: ذلك ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّ تعظيمه إياها من تقوى القلوب.
هذا ويصحّ في ضمير فإنها أن يكون راجعا إلى حالة المعظّم التي يدل عليها الفعل السابق في الآية، وعلى هذا فلا يحتاج إلا إلى الرابط فقط، والمعنى أنّ من يعظّم الأنعام التي يسوقها للحرم، فيختارها سمانا حسانا، فإن تعظيمه إياها لا محالة ناشيء من التقوى الحقيقية، ودليل على أنه يخشى اللّه خشية تمكّنت من قلبه، فهو بتعظيمها قد جمع بين مظهر الخشية وحقيقتها، فعمله هذا هو عمل المخلصين، وليس كعمل المنافقين، الذين يأتون بصور الأعمال من غير أن يكون في قلوبهم شيء من الإخلاص. يدل على هذا إضافة التقوى إلى القلوب.